الخميس، 28 يونيو 2012

عودة الوعي.. لتوفيق الحكيم 2/2




الحاكم المطلق


·        والجماهير عندما تحب لا تناقش.
·        وخفت شيئا فشيئا أصوات من اعتادوا المناقشة وأخذ الحاكم المحبوب نفسه يعتاد الحكم الذي لا مناقشة فيه، وأخذ الستار الحديدي يسدل رويدًا رويدًا بين الشعب وتصرفات الحاكم المطلق.
·        لم نكن نعرف من أمورنا أو الامور الخارجية إلا ما يلقي هو به إلينا من فوق المنصه عالية، في عيد من الأعياد أو مناسبة من المناسبات. وكان يتحدث بمفردة الساعات الطوال بغير كلفة ، حديثًا يظهرنا أبطالًا بقياته. ويظهر الدول الكبري حولنا في صورة أقزام فكنا نصفق إعجابًا وخيلاء . وعندما كان يخطب بقوة قائلًا عن دولة قوية تملك القنابل الذرية " إذا لم تعجبها تصرفاتنا فلتشرب من البحر" كان يملؤنا الفخر.

الثقة شلت التفكير 

·        وليس بعجيب أن يتلقي الشعب في حماس العاطفة هذه الخطب بالتهليل والتكبير. ولكن العجيب أن هو أن شخصًا مثلي محسوب علي البلد هو من اهل الفكر وقد أدركته الثورة وهو في كهولته أن ينساق هو أيضا خلف الحماس العاطفي.
·        كانت الثقة فيما يبدو قد شلت التفكير.
الأنفعال ورد الفعل

·        ومن يدرس بعناية الأحداث السياسية والعسكرية والإجتماعية التي وقعت في مصر علي مدي حكم عبد الناصر ، يجد أن المحرك الخفي الحقيقي لها كان هو " الانفعال ورد الفعل" وليس التفكير الهادئ الرصين الرزين المبني علي بعد النظر.
·        عبد الناصر لم يكن رجلًا سياسيًا ولم تكن له قط طبيعة رجل السياسة، التي يملكها رجال اتصل بهم وعرفهم مثل " نهرو" و " تيتو" ولكنه كان أقرب إلي طبيعة الكاتب الفنان الحالم العاطفي.

انفعل من أجلي

·        لأننا عشنا طويلًا فيما مضي مع رجال حكم حذرين مترددين باردين، لا ينتقلون خطوة إلا بعد طلوع الروح ، ولكم قاسينا من ذلك . فإذا ظهر لنا حاكم عاطفي متحمس يخطو بسرعة وبجرأة فإن هذا بالنسبة إلينا شيء جديد. ولم يكن انفعال عبد الناصر واندفاعه قد ظهر له بعد آثار خطيرة أو نتائج مدمرة. بل كان فيه ما يحمسنا نحن أيضًا ويشعل فينا، بالعدوي، لهب الانفعال وروح النشاط.
أصبح المعبود المعصوم

·        لقد أصبح معبود الشعب ولست أدري هل كان هذا حلمًا قديمًا له؟ .. بدأت أسائل نفسي بعد ان تأكدت مظاهر العبادة لشخصه علي مر الأيام، ما الذي كان يعجبه في كتاب " عودة الروح" ؟ أتري هل الفقرة التي تروي ما معناه أن مصر تحتاج دائمًا إلي معبود من بينها ؟ فلما قرأ ذلك وهو شاب صغير حلم بأن يكون هو ذات يوم المعبود؟ وليس هذا بالشيء المكروه. فكل انسان له الحق أن يحلم بأن يكون معبود الجماهير ولكن المكروه بل الخطر هو ان يكون للمعبود البشري من القداسة ما يجعله معصومًا من الخطأ في نظر الناس، وما يجعل سلطانه يشل العقل فلا يري غير ما يري ولا يسمح لها برأي يخالف رأيه وهذا ما حدث بالفعل .
تنظيم التصفيق والهتاف

·        قابلت ذات يوم رجلًا من أهل الريف أعرفه سألته عن سبب وجوده في القاهرة، فقال انه متصل بلجنة الاتحاد الاشتراكي في قريته. وأنهم أحضروه هو وزملاء له في القطارات باستمارات سفر أو نحو ذلك للاحتشاد في استقبال الرئيس جمال عبد الناصر عند عودته من الخارج في مناسبة من المناسبات. لأن الاستقبال شعبي كما يقال عادة. وان إقامتهم وطعامهم علي حساب الدولة. وان عليه هو وزملاؤه أن يهتفوا له طبقًا للشعارات المطبوعة والموزعة عليهم. وأخرج لي من جيبه بالفعل ورقة اطلعني عليها فدهشت.. لقد كان مكتوبًا عليها بحروف مطبوعة هذه العبارات : هتاف جماعي : " ناصر ناصر ناصر" ثم هتاف فريق : " فليحيا ناصر العروبة" ثم هتاف جماعي : " فليحيا بطل الثورة"... " القائد البطل" ... " زعيم الأمة العربية" ... إلخ أشياء من هذا القبيل ، وسألت : كيف يهتفون من هذه الورقة فقال أن الورقة لا تظهر فهي للحفظ فقط حتي لا ننسي الكلمات، وأنه معين لكل جماعة منهم أربطه ، أول الصف أو في الوسط، أو علي رأي كل مجموعة يشير إليهم بالبدء... كما يحدث في كورال الموسيقي وكورس المسرحيات.
العدوان الثلاثي " المفاجئ"..

·        كنت في ثورة 1952 وفي كهولتي افكر بقلبي، وكنت في ثورة 1919 وفي شبابي أفكر بعقلي ولست أدري سببًا لذلك..
·        فلا انس خطبة الجمعة المشهورة التي أعلن فيها عبد الناصر أنه لم يكن يظن أن بريطانيا ، ستشترك حقًا في العدوان علي مصر مع إسرائيل، لأن ذلك في نظرة يعرضها لغضب العرب. وأنه لم يعرف بإشتراكها إلا عند سماعة أزيز الطائرات البريطانية، فصعد إلي السطح منزله ليتأكد من ذلك بنفسه قلت لنفسي: صح النوم كيف كان رئيس دولتنا يجهل هذا الأمر ، وأنا الذي ما ارتبت لحظة في أن بريطانيا جادة في الحرب .....
·        .... كيف إذن خطرت لعبد الناصر هذه الفكرة : أن إيدن عندما كان يلوح بالحرب ويجري الاستعدادات لها علي هذا النحو إنما كان ذلك مجرد تهويش؟ ...
يهوش بالحرب

·        إن الإنسان أحيانا يري الأشياء والأشخاص من خلال طبيعته.
·        فهل كانت طبيعة عبد الناصر هي التهويش؟ إذا راجعنا ظروف حرب 1967 ونشر جيوشنا هناك لكل دباباتنا الجديدة والقديمة، وكل جنودنا المدربين وغير المدربين، وتضخيمًا للعدد وتكبيرًا للمظهر وإرهابا بالمنظر، دون أن تكون هناك نية هجوم حقيقي، نجد أن المقصود هو الوصول إلي الهدف بالتهويش وليس بالعمل الفعلي. وهذا يؤكد ما أعتقده من أن عبد الناصر داخليته رجل سلام.
·        علي الرغم من كلامه العنيف – انه رجل يريد السلام ويهوش بالحرب في حين أن إسرائيل تريد الحرب وتهوش بالسلام وبذلك خدعت العالم...
·        .... ومن يهوش بالسلام ويريد الحرب يكسب الحرب ومن يهوش بالحرب ويريد السلام يخسر الحرب والسلام وهذا كان حالنا...
الفريسة تهتف انتصرنا

·        .... كان من جراء خداعنا لأنفسنا وتصديقنا للأكاذيب التي نذيعها عن أنفسنا وللتهويل التي نضعها ونطلقها في الإذاعات والأناشيد والأغنيات أن قمنا ننشط للمغامرة الحربية.
ما حكم التاريخ

·        أرجو من التاريخ أن لا يبرئ شخصًا مثلي، يحسب في المفكرين، وقد اعمته العاطفة عن الرؤية ففقد الوعي بما يحدث حوله.
·        لقد كانت ثقتي بعبد الناصر تجعلني أحسن الظن بتصرفاته، والتمس لها التبريرات المعقولة...
آية السخرية

·        إن ما حدث لي يوم 5 يونيو 1967 وما بعده لآية من آيات السخرية التي تثير الدهشة والعجب .... ذهبت إلي مكتبي بجريدة " الأهرام" فوجدت احد سعاه المكتب في يده راديو ترانزستور صغير، يعلن في كل ربع ساعة بيانًا من المسئولين في وزارة الحربية أو قيادة الجيش، أننا أسقطنا للعدو مائة طائرة، وعندما جاء الظهر كان عدد ما أسقطناه من الطائرات قد بلغ قرابة المائتين . أما في المساء فقد ارتفع العدد إلي ما لا أذكر من أرقام. فما شككت في أن العدو قد أنتهي أمره. وسرت في شوارع القاهرة من ميدان التحرير إلي ميدان سليمان باشا فإذا لافتات كبيرة علقها الاتحاد الاشتراكي كتبت عليها النصر ، ثم عبارات تقول " إلي تل أبيب".. وكان الجو كله حولنا يكاد يشعرنا بان دخول جيوشنا في تل أبيب لن يتاخر عن التاسعة مساء من نفس اليوم 5 يونيو اشتداد المعارك في سيناء، فرسمت في رأسي صورة لخطة جيوشنا الظافرة .. فلما دخل علي زائر صديق يقول لي في قلق وحزن أنه سمع من الإذاعات الأجنبية أن العريش قد سقطت في يد العو، وأن جيوشنا تتقهقر بإستمرار لم يظهر علي أي انزعاج، وقلت في هدؤ وابتسام وبلهجة الوثوق التام: اسمع ... أنت لاتفهم خطة جيوشنا .. لقد اتضح لي الآن أنها لا تقصد الوصول إلي تل أبيب ولا التوغل في أرض العدو. إنما هي تريد استدراج جيشة إلي أعماق صحراء سيناء والقضاء عليه. لأن احتلال أرضيه أمر قد تقوم له هيئة الأمم ومجلس الأمن فينتهي الحال إلي التراجع عنها، كما حدث له هو يوم احتل غزة وبعض سيناء عام 1956 واضطر مرغما غلي الانسحاب عنها . أما تحطيم قوته العسكرية وانزال الخسائر الجسيمة بها فو لا شك هدف أهم وابقي في نظر قيادتنا وهذه هي الخطة وهذا هو سر التراجع والتقهقر في صفوفنا. ولبث مطمنئنا إلي تفسيري هذا ....
هزيمة غير معقولة

·        ذلك أنه لم يكن من الممكن عقلا ولا منطقًا أن نصدق بسهوله أن جيوشنا يمكن أن تهزم في بضعة أيام. لقد لبثنا الاعوام وهم يروون عنها الأعاجيب، ويجعلوننا نري في كل عيد من أعياد الثورة استعراضات عسكرية تحوي أحدث طراز من الدبابات، ونري فيها الصواريخ التي سميت " القاهر" و " الظافر" ونري فرقًا يطلق عليها اسم الصاعقة تركض وهي تهدر هديرًا مخيفًا، ونري جنودًا تهبط من الأعالي وتقفز فوق الجدران، وتمزق وتأكل الثعابين...
·        ... لم تكن إذن من الممكن لشخص واحد ، سواء أكان مع الثورة أم ضدها أن يشك في قدرة الجيش المصري علي صد العدو وقهره، وذاد التأكد يوم شاهدنا في التليفزيون رئيسينا يواجه الصحفين الأجانب الموفدين من أكبر صحف العالمليسألوه قبل 5 يونية الازمة مستحكمة عقب إغلاق خليج العقبة، ماذا هو فاعل إذا جاءت السفن الحربية من بريطانيا أو أمريكا لفتح هذا الممر المائي الذي أغلقه؟ فأجاب بثقة القادر: " سيجدون هناك قوة لا يتصورونها".
 ما شككت وانا أشهاد ذلك وأسمع في التلقزيون أن هناك صوايخ ذرية في الانتظار. لم يخطر ببالي قط أن مثل هذا الكلام قد يكون من قبل التهوين.
والظاهر أنه كان خارج بلادنا من يزن مثل هذا الكلام الوزن الحقيقي فقد سمعت، ولا أذكر في أي تاريخ أن عضوًا في الكونجرس الأمريكي قال وهو يقرأ خطبًا من مثل هذا القبيل لعبد الناصر: " هذا الرجل يبلف"... ولكننا في مصر، ما كان أحد منا يرتاب أو حتي يرجع قليلًا حقيقة ما يلقي علينا. هل كنا مسحورين؟ كام سبق أن قلت أو انها الثقة التامة في زعيم وضعنا أملنا به؟ أو أننا اعتدنا هذا النوع من الحياة الذي جعلتنا الثورة فيها مجرد أجهزة استقبال...
الحقيقة المذهلة

·        لم أعرف الحقيقة ويعتريني الذهول إلا في يوم الجمعة 9 يونية... فقد ظهر أننا خسرنا الحرب منذ الساعات الأولي من يوم 5 يونية .. وعندما رأينا الرئيس في شاشة التليفزيون يعلن الهزيمة ويخففها بلفظ النكسة، لم نصدق أننا بهذا الهوان ، وأن اسرائيل بهذه القوة... وكان أكرم له وأعظم لو أنه أختفي عن انظارنا في ذلك اليوم ولم يواجهنا بكلام ربما كان خيالنا قد ضخم لنا صورة آلامة التي لا يمكن ان تحتمل... ولكننا مع ذلك تأثرنا وعاد فامتلك عواطفنا.. وعاد يمنينا بالنصر..
·        ومرت علي الهزيمة الأيام وفي كل يوم يتضح لنا فداحة حجمها، فالجيش قد أبيد واسلحته ومعداته واحدث دباباته وطائراته التي استنقزفت دم مصر ... ولم تطلق مع ذلك طلقة واحدة، وقال قواد دولة صديقة في عجب: لو أن كل دبابة صمدت وأطلقة لتكبد العدو من الخسائر، ما جعل الحرب تمتد إلي أجل معقول، وجعل الهزيمة إذا وقعت، هزيمة بشرف ... ولكنه القرار المعروف : قرار الانسحاب..
·        من أول نظرة إلي سوء الموقف.. أنه أسلوب واحد هو طابعة المميز في حروب الثورة: توريط أنفسنا ثم الانسحاب.
أين يقام التمثال؟

·        وتوفي عبد الناصر بعد ثلاث سنوات من الهزيمة، ولا ندري كيف أمكنه أن يعيشها، غلبت علينا جميعًا العواطف يوم وفاته. وأنا بنوع خاص دفعتني المشاعر ودواعي الوفاء فاقترحت إقامة تمثال له في ميدان القاهرة. فجاءتني خطابات مترددة ثم وجدت من بينها خطابًا يقول فيه صاحبه أنه موافق علي إقامة التمثال ولكنه يري أن يكون مكانة ليس في القاهرة بل في تل أبيب لأن اسرائيل لم تكن يومًا تحلم بأن بهذه السرعة من القوة العسكرية ولا أن تظهر أمام العالم بهذا التفوق الحضاري ، إلا بفضل سياسة عبد الناصر ...
انهت الثورة

·        أن الثورات بمعناه الدقيق تنتهي عادة بمرد تحويلها إلي نظام حكم رسمي . فقورة 1919 مثلًا انتهت بعد أن أدت مهمتها باستقرار نوع من الحكم الملكي البرلماني وتعيين زعيمها سعد زغلول رئيسًا للوزارة.
من صنع الدولة

·        فمصر بعد ثورة 1919 في حضارتها وفكرها وفنها واقتصادها هي من صنع مصر، وليست من صنع حكامها. أما بعد ثورة 1952 فإن مصر هي من صنع الدولة اكثر مما هي من صنع نفسها.
ضياع وعي مصر

·        ولو تصورنا رجلا تسلط علي ابنه ولم يترك له إرادة ولا اختيارًا لشيء، وجعل يغدق عله كل الخيرات التي يري هو انها صالحة لأبنه، ويتخير هو له نوع الحياة التي يجب أن يعتادها والزوجة التي يجب أن يتزوجها ويراقب الصحف التي يطالعهان والكتب التي يقرؤها والاخبار التي يسمعها، والأغاني التي ينشدها ..... وبالاختصار كل ما يتصل بحياته المادية والعاطفية والفكرية يجب ان يسير في المجري الذي يريده ويخطه الأب الحنون، دون أن يقبل من ابنه مراجعة أو معارضة أو اختيارًا حرًا. ماذا يكون مصير هذا الأبن؟ وهل تنفعه كثيرًا الخيرات والمكاسب التي أغدقت عليه، وقد فقد مع مرور الزمن النمو الطبيعي لتكوينة العقلي والإداري... وأصبح شخصًا ضعيف الشخصية فاقد الوعي بذاته جاهلاً لمعني المسئولية، ويختار له ويقرر له القرارات المصيرية، يتحمل عنه كل المسئولية وهو جالس كالمعتوه، يتلقي كل شيء من قم أبيه.
·        لم يكن فينا رجل يقول أو يستطيع أن يقول: كفوا عن ترديد كلمة النصر هذه التي نطلقها بغير وعي ولا معني علي كل شيء يصادفنا.. أن البلاد التي انتصرت فعلًا الانتصارات العسكرية أو العلمية أو الحضارية لم تكثر هكذا ولم تسرف في ترديد هذه الكلمة في كل موضع ومناسبة وغير مناسبة بلا حياء... اما والهزائم قد توالت فما هي دواعي الاستمرار فيما قد يثير السخرية، الا أن يكون هو الاطمئنان إلي ان الوعي العام مفقود... أتراه كان تحطيمًا مقصودًا لوعي مصر؟ أن الكتب المدرسية في أيدي الشباب تضخم أمجاد الثورة تضخيمًا تشتم منه رائحة التزييف والمللق، وتترك في ظلام اللاوعي صفحات مشرقة لعهود أخري...
عودة الوعي

·        " عودة الوعي" وهو كتاب لن أكتبه أنا، لا... لا شخيوختي وضعف صحتي هما وحدهما السبب، بل لأن من يستطيع ذلك هو كاتب آخر من جيل آخر، له من الحرية وعدم الارتباطات العاطفية ما يمكنه من الرؤية الواضحة والحكم المتثبت علي عهد اختلطت فيه حقائق الأشياء إلي حد يرفع فيه الشعار ويعمل بنقيضة خلف الستار.
·        أنه ليحضرني مثل جميل علي وعي الشعب . أنه تقدم ديجول وهو بطل قومي لفرنسا للاستفتاء علي رياسة الجمهورية لقد تقدم معه خمسة من المرشحين. وقبل الاستفتاء العام سمح للجميع بفرص متسساوية في الصحف والإذاعات لعرض برامجهم ونشرت إحدي الجرائد خمس خانات معنونه بالأرقام لا الأسماء، ووضعت في كل خانة برنامج المرشح ودعت قراءها إلي اختيار البرنامج دون معرفة صاحبهن ولم تذكر اسماء المرشحين إلا في آخر صفحة وأردت انا أن اجرب في نفسي هذه العملية ، واخترت إحدي الخانات، وقد أعجبني البرنامج الذي فيها، وقلبت الصفحات لأعرف ايم من اخترت فإذا هو لدهشتي ديجول نفسه... هكذا يري الرأي العام الحر، ويحرصون علي وعي الشعب في تلك البلاد. أما الاستفتاء الذي تطبل له جميع الصحف مقدمًا بكلمة " نعم" بالخط الأحمر العريض، ثم يخرج بنتيجة 99.9% فمعناه ان هذا البلد ليس له وعي ولا حرية ولا كرامة إنسانية.
الأحد 23 يولية 1972


عودة الوعي.. لتوفيق الحكيم 1/2








عودة الوعي
هذه السطور ليست تاريخًا
إنما هي مشاهد ومشاعر
استرجعت من الذاكرة
ولا تستند إلي أي مرجع آخر

للفترة ما بين 23 يوليو سنة 1952
إلي يوم الاحد 23 يوليو سنة 1972

ذلك الصباح

• ما من أحد في مصر لم يتحمس لهذا الجيش، الذي استطاع وحده أن يقف ضد ذلك الملك ذلك الشخص المكروه من المجتمع، بأخلاقة القذرة وجسمة المترهل كأنه الخنزير.
وكأن القدر أرد له النهاية فأعماه عن سلوك الطريق الذي ينقذه. لقد كانت البوادر تنذر بالعاصفة، فواجهها هو بتأليف وزارة جديدة واهية هزيلة، وجعل وزير الدفاع فيها زوج أخته "فوزية" الشاب الرقيق اسماعيل شيرين. وحتي هذا الشاب فهم للتو أن الظروف أخطر والمسئولية أكبر من أن يحملها مثله ومثل هذه الوزارة فما ان تقدم لحلف اليمين أمام الملك حتي جثا علي ركبتيه، واستحلف بحق النسب والقرابة، ان يستمع منه لقولة الصدق وهي ان يأتي بالرجل الوحيد الذي يستطيع أن يواجه الموقف وينقذ العرش: انه زعيم الأغلبية " مصطفي النحاس باشا"..

وتردد الملك

• ولكن الملك تردد وربما كبر عليه أن يأتي بعدوه التقليدي ليخرجه من مأزقة.

• بعد ظهر السبت 26 يوليو 1952، وقفنا في استراحة " الرست هاوس" وطلبت فنجانا من القوة ، واذا صوت مذيع الراديو بالمكان، يعلن خبر مغادرة الملك للبلاد بعد نزوله عن العرش. وكان شعور البلاد بالفرحة شعورا حقيقيًا لا جدال فيه.

السادة الجدد

•  كان من رأي " اللواء محمد نجيب" ، كما سمعت ، ان الجيش لا يحكم ولا ينبغي له، وأن عليه أن يترك حكم البلاد لأهلها بالطريقة الدستورية، وأن يعود الجيش إلي ثكناته ويراقب سير الأمور عن كثب..
الضباط وبجماليون

• وقال لي يومئذ صديق من الصحفين اللامعين المتصلين بهؤلا الضباط اتصالا وثيقا: أنهم يقولون أن الأمر يشبة مسرحيتك عن  " بجماليون".. كانوا يقصدون بذلك انهم هم الذين صنعو من محمد نجيب التمثال الذي يقدم للناس علي أنه رأس الحركة والواقع أنهم هم الذين فكروا في القيام بحركتهم وخططوا لها وكتبوا لها المنشورات باسم الضباط الأحرار" وحددوا موعد التنفيذ. ولكنهم استصغروا أنفسهم علي مواجهة الناس وهم صغار السن والرتبة العسكرية. وخشوا أن لا يأخذ الناس مأخذ الجد حركة يقوم بها جماعة من شباب الجيش المجهولين المغمورين. كان لابد لهم من وجه كهل ، برتبة لواء علي الأقل، يضعونه في المقدمة ويتقدمون خلفه. فاختاروا اللواء محمد نجيب ، واقاموه تمثالا فوق قاعدة الحركة. ولكنه الآن قد استقر في أعين الناس، ونسي أنه مجرد تمثال ، وأخذ يتصرف برأيه في مسقبل البلد السياسي، فتذكروا تمثال "بجماليون". ولكن هل كان أحدهم قد قرأ حقا مسرحيتي، أوأن الذي يعرفونه أو سمعوا عنه هو مجرد الاسم والعنوان؟ مهما يكن من أمر، فإن بجماليون في مسرحيتي قد حطم بعد ذلك تمثاله، وهذا بالضبط ما فعلوه هم بتمثالهم...
ولكن السؤال هو : هل كان تدبيرهم من أول الأمر التخلص من محمد نجيب بعد الانتهاء من مهمته؟ ..... أو أن الحوادث اضطرتهم إلي ذلك؟

الخلافات السياسية

•هناك سؤال آخر: هل كان في تخطيط هؤلاء الضباط الاحرار أن يحكموا البلاد بانفسهم أو ان الظروف في البلد ذلك دفعتهم إلي ذلك دفعًا ؟

• فمن الخلافات الحزبية ما لمست بنفسي مثلا من أمثلته ، وقد قامت الثورة وكانت حوادثها المتلاحقة تدعوني إلي تتبعها، فكنت اتردد علي جريدة " أخبار اليوم" كل ليلة لاستطلع ما يجري . وفي ذات ليلة وجدت هناك صديقي الصحفي القديم المرحوم " توفيق دياب" صاحب جريدة " الجهاد" الوفدية. وما كدنا نجلس حتي دخل علينا أحد أقطاب حزب الأحرار الدستورين المعارضين للوفد وهو المرحوم " أحمد عبد الغفار باشا". وإذا الاثنان بتلاقيان بالقبلات والأحضان ويتبادلان أرق العبارات بالود والترحاب. ثم أخذا يتحدثان في الأوضاع الجديدة ومصير الدستور وضروة وقوف الأحزاب كلها صفا واحدا، ووضع حد للخلافات ، ومد كل سياسي يده إلي الآخر لتتحد الكلمة ، حفاظا علي دستور البلاد، فقال أحمد عبد الغفار : ومن يضمن لنا حسن نيتكم يا حزب الوفد؟ فرد عليه توفيق دياب : إذا كان هناك غدر فأنتم أصحاب الغدر دائما يا حزب الأقلية.. وكلمة من ذاك وكلمة من هذا فلم أشعر إلا بالأصوات وقد ارتفعت بالسباب من الطرفين وصوت أحمد عبد الغفار الجهوري المجلجل يصيح: " من يضع يده في أيديكم ياوفديين يا حزب الرعاع يا كلاب" فصرخ توفيق دياب وقال وهو يجأر : " اخرس يا وغد أنت وحزبك الحقير يا صنائع الانجليز..." ولم يقف الامر عند حد التراشق بالسب والشتم بل تعداه إلي الضرب واللكم.

وتضارب السياسيان

• لقد أيقنت تلك اللية أن لا شيء يمكن أن يقضي علي داء الحزبية والتعصب الحزبي في هذا البلد.

ثورة ضد الدستور

•  ... ولكن سليمان حافظ  وهو أيضا من  أعداء الوفد القي في نفوسهم الخوف في ذلك .. وقال لهم أن الانتخابات الحرة ستسفر حتما عن برلمان وفدي ومن أدراكم أن هذا البرلمان سيؤيدكم . ثم أشار عليهم بأهمال الدستور ، وافتي لهم بأن من حقهم إصدار القوانين دون برلمان ، لأنهم قاموا بثورة ، والثورة معناها إلغاء ما قبلها من أوضاع ... وهكذا أطلق علي حركة 23 يولية اسم " الثورة" بعد أن كان اسمها " الحركة" ولحبنا لها سميت " الحركة المباركة" . وقام بعض أساتذة الجامعة يؤكدون وصف الثورة ويؤيدون حقها المطلق في إصدار القوانين...
وأصبحت الحركة ثورة

• ولكن بعض فقهاء القانون الدستوري ، قاموا من جهة أخري ينفون عن الحركة وصف الثورة، ويدللون علي أن الوصف المنطبق علي هذه الحركة هو " الانقلاب العسكري" وذلك أن الثورة يقوم بها الشعب ويقودها مدينيين...

مبادئ بلا أشخاص

• المبادئ ليست بذات قيمة في نظري بغير الاشخاص الذين يطبقونها بإخلاص، ويؤمنون بها ويحرصون عليها.

• ولقد كانت عندنا مبادئ ودساتير في أيدي أشخاص يتلاعبون بها لمنافعهم وأغراضهم، وما كنا نحلم به وننتظره دائما هو ظهو الأشخاص المخلصين.

البعد عن الحكم

• كان عبد الناصر كما سمعت. يدهش لابتعادي عنه..

•  ما يبعدني هو مبدئي المعروف الذي كتبت عنه كثيرًا : أن الحاكم لا يريد من المفكر تفكيره الحر بل تفكيره الموالي. أنه يريد أن يسمع منه تأييدًا لا اعتراضً ورسالة المفكر في جوهرها هي الصدق والحرية. وهو يخطئ ويخدع ويفقد الوعي ولكنه لن يخون رسالته عن وعي. وأني أخشي دائما أن تحجب الصداقة والقرابة والحب والعاطفة، وحتي الكره والسخط ، النظرة الصادقة إلي حقائق الأشياء . ولقد حاولت علي قدر المستطاع في كتابي " سجن العمر" أن أصور أقرب الناس إلي وهما الوالدان بما لهم وما عليهم تصويرًا خاليا من القداسة التي اعتادها الناس في بلادنا، نحو أهلنا ، وتعرضت بذلك لغضب الأحياء من ذوي القربي واستهجان المتحفظين من القراء.
.